نستعرض في هذا المقال أهم خصائص الموسيقي المتقنه، قديما و حديثا، في إيران، و هي الواقعه في الجنوب الغربي للقاره الآسياويه، تحدها جمهوريه أذربيجان (التابعه للاتحاد السوفياتي السابق) و بحر قزوين و أفغانستان و باكستان شرقا و العراق و تركيا غربا، و الخليج الفارسي) و بحر عمان جنوبا، و كانت تعرف قديما ببلاد فارس و أصبحت منذ سنه 1925 تسمي رسميا إيران.
و الموسيقي الإيرانيه وريثه الموسيقي التي لها جذور ضاربه في أعماق التاريخ حيث يشاع أن الإسكندر (356 ـ 323 ق م) افتتن، بعد غزوه لبلاد المشرق، بالألحان التي كانت رائجه بها و بالآلات المستعمله، مما يعكس ما شهدته تلك الموسقي من تطور مقارنه بنظيرتها الإغريقيه التي لم تكد تتخطي مرحله بدائيه.
و لا غرو في ذلك، إذ كانت فارس و بلاد ما بين النهرين مهدا لحركه موسيقيّه نشيطه و شهدت تطور عدد من الآلات التي انتقلت بعد أن أدخلت عليها بعض التغييرات، إلي الغرب يذكر منها:
ـ الآلات الوتريّه ذات النبر، و أهمها العود الذي تطور شكله عبر العصور انطلاقا من آلات شبيهه كالموتر و الكيران و المزهر و البربط الذي يعدّ، من حيث شكله و طريقه صنعه، أقرب آله إلي العود، و تتركب تسميه الفارسيّه من «بر» و معناه «صدر» و «بط» و هي التسميه نفسها التي تطلق في اللغه العربيه علي طير البط، و المعازف. و تشمل آلات كالهارب و الليرا و الستاره الشبيهه بآله القانون، و أشهر أنواع المعازف لدي الفرس «الجنك» (بضم الجيم) و يطلق عليه العرب تسميه صنج.
ـ الآلات الوتريه ذات القوس و أهمها الروباب الفارسي الشبيه الرباب العربي الذي كان استعماله متداولا لدي العرب في العصر الجاهلي. و قد تغير شكله في الغرب فاشتقت من آلات الفيولا و الكمنجه (أو الكمان) بمختلف أحجامها (viola, violon, violoncelle et contrebasse) .
ـ الآلات الهوائيّه: و تنحصر أساسا في المزامير و القصب، و استخراج منها في الغرب آلات كالهوبوا (Hautbois).
ـ آلات الإيقاع: منها الصنوج (مفردها صنج) و هي صفائح معدنيّه صغيره تقرع الواحده علي الأخري (و يتعين عدم الخلط بينها و بين الصنج، و هي آله وتريه ذات أوتار مطلقه كانت تستعمل قديما لدي عرب الجاهليه) و اتخذ الغربيون شكل الصنوج لصنع آله السمبال …
و يرجع الفضل للعرب، بعد فتحهم لفارس (سنه 642 م) في نشر عدد من آلالات المذكوره عبر العالم الإسلامي، و أندونيسيا شرقا إلي المغرب الأقصي غربا، و إلي نقلها إلي أروبا حيث تطورت أشكالها و استعمالاتها.
خصائص الموسيقي الفارسيه القديمه:
لا تعرف خصائص النظام الصوتي للموسيقي الفارسيه بالتحديد قبل القرن التاسع ميلادي، ثم نمت المعارف حولها بفضل أعلام تركوا مؤلفات حول الموسيقي في البلاد العربيه الإسلاميه من أبرزهم:
ـ يعقوب الكندي: (796 ـ 874 م) الذي يلقب بفيلسوف العرب، ترك سبع رسائل في الموسيقي من أهمها «رساله في ترتيب النغم الداله علي طبائع الأشخاص العاليه و تشابه التأليف» و قد تطرق فيها إلي النظريات و الممارسه الموسيقيه في عصره إضافه إلي وصف السلم الموسيقي و النظريات المقتبسه من الإغريق القدامي و بين الفروق بين المقتبسه من الإغريق القدامي و بين الفروق بين الموسيقي العربيه من ناحيه و الموسيقي الفارسيه و الإغريقيّه من ناحيه أخري.
ـ أبو نصر الفارابي (حوالي 870 ـ 950 م) و قد ولد بمدينه فاراب في فارس ثم سافر إلي بغداد حيث درس علوم الفلسفه الإسلاميه و المسيحيه و علوم اليونان، و كان من أبرز علماء الموسيقي النظريه في الإسلام و من مؤلفاته «كتاب الموسيقي الكبير» الذي عالج فيه عديد المسائل المتعلقه بالإيقاعات و السلالم الموسيقيه و صناعه الآلات التي كانت متداوله قديما في عصره و يعتبر هذا المؤلف من أهم المصادر في تاريخ الموسيقي العربيه.
ـ ابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس (980 ـ 1037 م) ولد بمدينه بخاري تخصص في علوم كثيره من شعر و فلسفه و هندسه و برع في علوم الطب التي ألف فيها كتابا، كما اشتهر بمؤلفاته في الموسيقي و منها بحث في تعدد التصويب الموسيقي و آخر في «محاسن الألحان».
ـ صفي الدين عبد المؤمن بن فاخر الأرموي (توفي سنه 1294 م)، ينحدر من أب جاء من إحدي مدن أذربيجان، عاش ببغداد في خدمه المستعصم (1242 ـ 1258 م) آخر خليفه عباسي و كان رئيسا لمطربيه. من أشهر مؤلفاته «كتاب الأدوار» و «الرساله الشرفيه» و الأول منهما من أهم ما ألف في القرن الثالث عشر عن الموسيقي النظريه، و قد استعمل مصطلحات فارسيه في تسميه الألحان و الإشاره إلي تأثيرها من ذلك زيرافكند لحاله الحزن و الاصفهان للجهود و الزنكوله للنوم و أبو سلك للقوه(1).
و ما من شك أن للموسيقي الشرقيه علاقه بالموسيقي الإغريقيّه، فسلمّ فيثاغورس (القرن السادس قبل الميلادي) قد يكون مستخرجا من موسيقي البابليين، ذلك ما تطرق إليه بالخصوص يعقوب كما أسلفنا.
و بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس الذي تم سنه 642 م تحت الأمويين، انتشرت الموسيقي الفارسيه عبر الجزيره العربيه في مرحله أولي ثم إلي أجزاء من العالم الإسلامي، و قد ساعد علي ذلك ما بلغته من إتقان. و توطدّت صلات العرب بالموسيقي الفارسيه في عهد الخلفاء الراشيدين (632 ـ 661 م) و ذلك عن طريق العمله الفرس الذين اشتغلوا بالمدينه المنوره و بمكه المكرمه و ساهموا في بناء المسجد الحرام و قد نقلوا عددا من أغانيهم إلي مسامع بعض المغنين و المغنيات العرب، من بينهم سائب خاثر (المتوفي سنه 683 م) و اشتغل بالغناء بعد خيبته في التجاره و كان أوّل من يستصحب الغناء بآله العود و من يستعمل الألحان الفارسيه في الشعر العربي، و طويس (توفي سنه 710 م) الذي قلّد منذ حداثه سنه الغناء الفارسي، و عزه الميلاء (توفيت حوالي سنه 705 م) التي عكفت علي تلقّي الغناء الفارسي، و نشيط الفارسي و هو عبد كان في خدمه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي أعتقه فيما بعد. أثار هذا المغني في المدينه المنوره نوعا من الفتنه بالحانه الفارسيّه التي أصبحت متداوله لدي أغلب المغنين العرب.
و تواصل التأثير المتبادل بين الموسيقي الفارسيه و العربيه في العصرين الأموي و العباسي من خلال عثمان سعيد ابن مسجح (توفي حوالي سنه 715 م) الذي كان يغنّي أشعارا عربيه بألحان فارسيه، و قد عكف علي دارسه السلّمين اليوناني و الفارسي و اختار من بين درجاتهما الأصوات التي تتّفق و الذوق العربي، واضعا بذلك منهجا للاقتباس من الألحان الأجنبيه، و ابن محرز (توفي حوالي سنه 715 م) الذي انتقل إلي فارس حيث تعلم الغناء ثمّ إلي الشام حيث تعلم ألحان الروم، و قد مزج بين مختلف المدارس لينشيء الغناء بزوج من الشعر و اقتدي به أغلب المغنين بعده، و استمرت طريقته هذه و يأتي منها «الدوبيت» و «المثنوي» في الغناء الفارسي. كما أنشأ نوع الغناء علي الضرب المعروف بالرمل و نقله عنه للفارسيه المغني «سلمك»(2) و استعمل الطمبور الخراساني في العصر العباسي فأدخلت درجات جديده علي السلم الموسيقي الذي أصبح ينقسم علي أجزاء أصغرها يسميّ «الليما» و ظهرت من تلك الدرجات الوسطي الفارسيه و وسطي زلزل المنسوبه إلي منصور زلزل (توفي سنه 791 م) و هو من خيره العازفين علي العود في العصر العباسي، أدخل علي السلم الموسيقي البعد الثالث الأوسط، و اخترع العود الكامل المسميّ بعود الشبوط الذي سرعان ما احتلّ مكان العود الفارسي.
و ساهم هذا التداخل في بناء الأنظمه الموسيقيه العربيه و التركيه. و اكتسب الموسيقي الفارسيه خصوصيات مميزه استمدت مقوماتها من حضاره بلاد فارس، فانفردت رغم ما يربطها من علاقه بالموسيقي التركيه و العربيه بطابع خاص، و لم تلبث أن انتقلت إلي الغرب عن طريق زرياب(3) الذي تشبّع بفن يعتبر خلاصه للخصوصيات الفارسيه و العربيه و وضع أسس الموسيقي العربيه بالأندلس التي ساهم «التروبادور» في نشرها بأروبا مستعملين آلات من أصل شرقي كالعود و مستوحين أغانيهم من ألحان شرقيه.
و عبرت روح الموسيقي الفارسيه من الشرق الي الغرب و أفرزت أساليب و تيارات طريفه تعدّ ثمره امتزاجها بموسيقي أروبا، ثم تطورت إثر ذلك منتهجه مسالك خاصه بها تتجلّي في طريقه الأداء التي بلغت درجه عاليه من الاتفان يعكسه فن زخرفه الألحان الذي لا ينقص في شيء عن فن الزخرف الخاص بفن المعمار.
و تتنوّع المقامات في الموسيقي الفارسيه و تتعدّد حتي أنها تكاد تبلغ الأربعمائه قالببا لحنيّا ينعت بالـ«قوشي» و تجمع هذه القوالب في اثني عشر نظاما يسميّ كل واحد منها «دستكاه» أو «أواز» و يتركّب جميعا من فواصل موسيقيّه و غنائيّه تنتهي في الغالب بغناء بيتين من الشعر يطلق عليه تسميه «مثنوي» و هو شبيه بما هو متداول في النوبه التونسيه و المتمثل في «رمي الأبيات» (بيتان من الشعر يستهلّ بهما الغناء).
إن تعدّد القوالب اللحنيّه في الموسيقي الفارسيه ناجم عن طبيعه السلم الموسيقي الذي يحوي، زياده عن الاثني عشر صوتا المكونه للديوان في الموسيقي المعبّر عنها بالغربيه (و هي التي تطورت في أروبا)، درجات صوتيه تفصل بين الأصوات الاثني عشر و تتوسطها و هي المعروفه بأرباع الأبعاد، و تعدّ أحد مقومات السلم الموسيقي الشرقي المتكون من خمسه و عشرين ربع بعد، و ذلك ما جعل أداء عدد من المقامات علي الآلات الثابته كالمعزف (أو البيانو) غير ممكن.
الموسيقي التقلديّه الإيرانيه:
و يقصد بها الموسيقي التقليديه المتداوله في العصر الحديث في إيران و هي امتداد للتقاليد الفارسيه، و قد ساهمت أجيال من الرواد في نحت معالمها و المحافظه علي خصائصها الأصليّه و نقلها عن طريق الروايه الشفويّه خلال القرن التاسع عشر الذي شهد ميلاد قوالب معزوفه و تقنيّه مازالت متداوله لدي بعض شيوخ هذا الفن، و تشتمل الموسيقي التقليديه الإيرانيه، كما أشرنا إليه علي اثني عشر نظاما مقاميّا أهمّها سبعه تسمّي «دستكاه» و الخمسه الباقيه تعتبر ثانويّه أو فروعا من المجموعه الأولي و تسميّ «أواز» و فيما يلي جدولها:
أنواع الدستكاه:
1- دستكاه «شور» و هو من أشهرها و يشبه من حيث سلّمه البياتي الشرقي أو الحسين التونسي، و يتفرغ إلي «أوازات» من أكثرها تداولا:
أ ـ أواز «أبو عطاء» و يتميز بكونه يتركب من عقد «راست» علي درجه اليكاه (صول قرار) و باستعمال عقد حجاز علي درجه الحسيني (لا).
ب ـ أواز «بيات ترك»: شبيه بطبع «الحسين صبا» التونسي الذي يكثر من الوقوف علي درجه الجهاركاه (فا) و هي الثالثه في سلّمه.
ج ـ أواز «دشتي» و يستعمل عقد بياتي علي درجه النوي (صول).
د ـ أواز «أفشاري» و يختص بكثره التوقف علي درجه السيكاه (مي نصف مخفوضه) قبل الاستقرار علي الارتكاز (ري).
2- دستكاه «همايون» يقابل الحجاز في الموسيقي الشرقيّه و الاصبعين في الموسيقي التونسيه و له فرع واحد أواز بيات أصفهان الذي يتميز بكثره التوقف علي الدرجه الرابعه من السلم (صول).
3- دستكاه «سه كاه» و هو شبيه بالعراق الشرقي المتكون من عقدين سيكاه و بياتي.
4- دستكاه «جهاركاه» و يقابل مقام الحجاز كار في الموسيقي التقليديّه العربيه.
5- دستكاه «ماهور» و هو قريب من المقام الكبير في الموسيقي الغربيّه.
6- دستكاه «راست بنجكاه» و هو عباره عن مقام الراست مركزا علي درجه الجهاركاه (فا).
7- دستكاه «نوا» و هو شبيه بمقام «النوي» التونسي مع كثره الارتكاز علي درجه الراست (دو).
و مازال عدد من المقامات المتداوله اليوم في تركيا و المشرق و المغرب العربيين يحمل أسماء فارسيّه من ذلك:
راست و معناها مستقيم
سازكار: عمل الآلات
سوزناك: المؤلم
النيروز أو النوروز: عيد الربيع لدي الفرس
دلنشين: ساكن القلب
نهاوند: مدينه بفارس
نكريز: لا تهرب
زنكولاه: جرس الراس
شاهناز: دلال السلطان
سيكاه أو ساكاه: الدرجه الصوتيّه الثالثه
بسته نكار: رابط المحبوب
المايه: الخميره … (4)
و من ناحيه أخري فإن درجات السلم الموسيقي الشرقي تحمل أسماه فارسيّه مازال أغلبها متداولا إلي اليوم، و هي:
يك كاه: الدرجه الأولي
دو كاه: للثانيه
ساكاه: للثالثه
جهاركاه: للرابعه
بنج كاه: للخامسه
ششت كاه: للسادسه
هفت كاه: للسابعه
الآلات الموسيقيه التقليديه:
توديّ الموسيقي التقليديه الإيرانيه بآلات «الطار» و «الستار» و «السنطور» و «الكمانشاه» و «الناي» و «الزرب».
ـ الطار: من عائله الآلات الوتريّه ذات النبر كالعود، له أربعه أوتار و يصنع صندوقه الصوتي من خشب الجوز مغطي بقطعه من الجلد.
ـ الستار: و هو عباره عن عود في حجم صغير و يصنع صندوقه الصوتي من خشب الجوز و يغطي بخشب أبيض رقيق له ثلاثه أورتار تعزف نبرا بإصبعي السبابه و الوسطي من اليد اليمني و هو بحكم صوته الرقيق الخافت نسبيا بقي استعماله مقصورا علي عدد محدود من العازفين.
ـ السنطور: و يشبه القانون المستعمل في جل البلدان العربيه و في تركيا، له شكل مربع منحرف و يشتمل علي ثمانيه عشر صفّا من الأوتار شدّت عليه بالعرض، كل صف منها يتكون من مجموعه أربعه أوتار يستخرج منها صوت معيّن بالضرب عليها بواسطه عصوين صغيرتين تصنعان من خشب خفيف.
ـ الكمانشاه: من فصيله الآلات الوتريّه ذات القوس، يغطي صندوقه الصوتي بجلد، و رغم استعماله منذ قرون عده، فهو مهدّد بالانقراض نتيجه تعويضه بالكمنيجه الغربيّه.
ـ الناي: تسميه فارسيّه لآله نفخ منتشره في جل أرجاء العالم العربي الإسلامي، تصنع، من قصب، و يختلف الناي الإيراني عن الناي العربي من حيث طريقه النفخ إذ يوضع بين الأسنان عوضا عن وضعه علي شفاه العازف، و بذلك يكتسب صوته جرسا مميزّا.
ـ الزرب: و هو آله الإيقاع الوحيده المستعمله في الموسيقي التقليديه الإيرانيه، يصنع من خشب مخروط و يغطي بجلد، و تسمح تقنيه العزف عليه باستخراج عدد وافر من الأصوات المختلفه التي يسعي العازف من خلالها إلي محاكاه حركات الصوت أو إمالات اللحن، مما جعل العازفين يتنافسون لإظهار راعتهم في العزف عليه.
و استعملت بعض هذه الآلات في أداء الموسيقي الشعبيّه الإيرانيه بطريقه تختلف من حيث تقنيه العزف و الأداء عن استعمالها في الموسيقي المتقنه.
طابع الموسيقي التقليديه الإيرانيه:
طبعت الموسيقي التقليديه الإيرانيه بطابع خاص فاكتسبت مسحه من الحزن و الشجي و الدعوه إلي التأمل، و لعل ذلك راجع إلي ارتباطها بالتصوف، ففي القديم نعت ابن سينا (980 ـ 1037 م) الموسيقي بكونها أهم العلوم الإلهيه لعلاقتها بتيار التصّوف الذي انتشر في فارس كما في سائر أرجاء العالم العربي الإسلامي.
و تبرز خصائص تلك الموسيقي في العصر الحديث من خلال جمله من العناصر التي ترسخت معالمها علي امتداد القرون الماضيه، و لا تظهر في مستوي مكوناتها التقنيه فحسب، بل في الإحساس بها داخليا و هو شعور ينقل عن طريق التواتر من جيل إلي آخر، و يلعب فيه حفظه التراث و شيوخه دورا بارزا، إذ بدونهم ينقطع حبل الوصل الذي يربط الماضي بالحاضر، و تلك ميزه الفنون ذات التقاليد الشفويه، فالموسيقي الإيرانيه الأصيله موجوده في قلب عدد من الشيوخ و في ذاكرتهم، و رغم أن كتابتها بالترقيم أمر ممكن من الناحيه التقنيه، فإن ذلك لا يكفي للغوض في روحها، التي تعد أهم عنصر فيها.
و من الناحيه التقنيّه فإن تلك الموسيقي ذات صوت واحد، كسواها في البلاد العربيه و الإسلاميه و هي مقاميه تنبني الألحان فيها علي مسار و صيغ ايقاعيه و لحنيه معيّنه أفرزتها التقاليد، تعتمد في الأداء إبراز بعض الدرجات المميّزه للمقام، و جمله من الزخارف، و يحرص الموسيقيون التقليديون علي حفظ عدد من الصيغ اللحنيّه و الإيقاعيّه الخاصه بكل مقام و التصرف فيها عند الارتجال (و هو عزف أو غناء فردي) حسب قواعد أقرتّها التقاليد الموروثه، ثم يضيفون إليها عناصر جديده كل حسب عبقريته وسعه خياله و رهافه إحساسه و طبقا لما حفظه عن أحد الشيوخ المشهود لهم بالرسوخ في الغناء، انطلاقا من تلك الصيغ و القوالب اللحنيه و الإيقاعيّه التي يسمي ّ كل واحد منها «رديفا»، و هذا المصطلح من أصل عربي حيث يقال ردف ردفا فلانا تبعه، و الرديف و تجمع رداف و ردفاء: الراكب خلف الراكب.
و يعدّ «ميرزا عبد الله» أحد الموسيقيين في القرن التاسع عشر و له رديف يعّد مرجعا لعدد من المغنين و العزفين و منطلقا لهم لإظهار براعتهم و إضافاتهم الفنيّه الشخصيه.
و إلي جانب الارتجال تشتمل الموسيقي الإيرانيّه علي ألحان موزونه تجمع في عده أنواع يخضع كل منها إلي تراكيب خاصه و تؤدّي هذه الألحان في أغلب الأحيان في آخر الحفل و هو القسم الموسوم بالخفه، مقارنه بسواه من أقسام الحفل.
و تدخل الألحان الموزونه جوّا من البهجه و الانشراح علي الحضور، و ظل هذا القسم قديما يرافق بالرقص التقليدي الذي كاد أن ينقرض خلال العقود الماضيه.
و يحتل الغناء مكان الصداره في التقاليد المتقنه، كما هي الحال في سائر بلاد المشرق العربي الإسلامي، حيث يمثّل الروح الإيرانيه، و ذلك لاعتماده علي الشعر الذي يقوّي تأثير الموسيقي في النفس.
و للشعر الفارسي أوزان متعدّده و معان في أغراض شتّي، يحدث بامتزاجه بالغناء حاله كمن الطرب و الانتشاء لدي السامعين.
و يعتبر تطور فن العزف نتيجه لتطور الغناء، حيث يحرص العازفون علي محاكاه لحركات الصوتيّه الدقيقه و مختلف الزخارف التي يقوم بها المغنّي عند الارتجال، و التي تلعب دورا رئيسيا في نجاح أدائه أو فشله.
أما القوالب المعزوفه، كالبشرف (5) فيعود الفضل في تطورها إلي ظهور موسيقي «التّعزيه» ذات المنحي الديني التي استنبطها الموسيقيون الإيرانيون خلال القرن التاسع عشر ليعوّضوا بها سائر المعزوفات المنتسبه إلي الموسيقي الدنيويه، التي اعتبر أداؤها حراما، و خضعت المعزوفات المنسوبه للموسيقي الدينيّه إلي مقومات الموسيقي التقليديه من حيث مقاماتها و زخارفها و طريقه أدائها، فسهامت في المحافظه علي تلك المقوّمات.
و يتعرّض الموروث التقليدي الإيراني المتكون من «الرديف» و الأغاني الموزونه و من فن الزخرف و من القصائد و موسيقي «التعزيه» للأخطار الناجمه عن الحداثه التي شهدها القرن العشرون، حيث كادت بعض الأشكال أن تنقرض مع رحيل الشيوخ من الرواه، تاركه المكان لاتجاهات جديده ذات أساليب مبسّطه تستجيب لأذواق جماهير لها تطّلعات فنيه جديده، فتغيّرت الموسيقي روحا و قوالب و تغيّرت معها تقنيات العزف و الغناء و تراوحت جلّ الأعمال التي تروّج عن طريق وسائل الإعلام المرئيّه و المسموعه و الأشرطه المسجّله، بين الفن الاستعراضي و الأغاني الخفيفه ذات المعاني و الألحان المبتذله.
وسعت موسسه الإذاعه و التلفزيون الإيراني في السبعينات عن طريق مركز المحافظه علي الموسيقي الإيرانيه و نشرها، إلي جمع عدد من العازفين و المغنّين و من الفنانين الواعين بما تتعرض له التقاليد من خطر الانقراض، و تضافرت جهود هؤلاء لحمايه التراث الموسيقي الإيراني من التشوّه و الاندثار.
المراجع:
د. برقشيلي، مهدي: شرح رديف موسيقي «دانشكاه» جامعه طهران.
د. فارمر، هانري جورج: تاريخ الموسيقي العربيه حتي القرن الثالث عشر الميلادي ترجمه جرجيس فتح الله المحامي منشورات دار مكتبه الحياه.
زغنده، فتحي: مدخل إلي دراسه الآلات المستعمله في الموسيقي التونسيه وزاره الثقافه، النجمه الزهراء مركز الموسيقي العربيه و المتوسطيّه ـ دار البارون دير لانجي نوفمبر 1992.
نشرت المعزوفات التونسيّه التونسيه الملحنه في اشكال تقليديه المتضمنه لدراسه حول المعزوفات التقليديه في الموسيقي العربيه المعاصره نشر وزاره الثقافه.
كريمي، محمود: كتب رديف أوازي موسيقي سنتي إيران ـ علق عليه محمد تقي مسعوديه ـ جامعه طهران.
د. المهدي، صالح: مقامات الموسيقي العربيه نشر المعهد الرشيدي للموسيقي التونسيه 1982.
DURING, Jean: La Musique Traditionnelle en Iran (Polycopie).
GUETTAT, Mahmoud: La Musiqe Classique du Maghreb, Sindbad – Paris 1980.
الهوامش:
1) تاريخ الموسيقي العربيه حتي القرن الثالث عشر تأليف جورج فارمر، ترجمه جرجيس فتح الله المحامي ص 285.
2) مقامات الموسيقي العربيه تأليف الدكتور صالح المهدي ص 67.
3) هو أبو الحسن علي ابن نافع مولي الخليفه المهدي (158 ـ 169 م) اللمقب بزرياب، أحد تلامذه إسحاق الموصلي و من كبار الموسيقيين في العصر العباسي، هاجر إلي القيروان من جراء منافسه إسحاق له و مضايقته اياه لما كان يتمتع به من موهبه، و من القيروان انتقل زرياب إلي الأندلس سنه (206 هـ 821 م) فأسس بها أول مدرسه موسيقيه، و زاد وترا خامسا للعود، كما اخترع له مضربا من قوادم النسر عوضا عن الخشب، اشتهر بكثره ألحانه التي قيل إنها بلغت عشره آلاف مقطوعه، ابتدع طرقا جديده في الغناء، و ذلك بافتتاحه بالنشيد يليه ما كان علي وزن البسيط و يختم بالمحركات و هي القاعده التي أصبحت تعتمد في التأليف الموسيقي في المشرق و المغرب العربيين.
4) مقامات الموسيقي العربيه للأستاذ صالح المهدي ص 25 و ما بعدها.
5) تدلّ هذه الكلمه علي القالب الفارسي التركي المعروف بـ ((Pechrev) و هي لفظه متركبه فيما يبدو من كلمتين من الفارسيه «بيش» و معناها أمام و «رو» و معناها ذهاب. و قد عرف العرب هذا القالب من المعزوفات عن طريق الأتراك.
من موقع: http://www.e-resaneh.com/articlefiles/almousighi.htm